«خلونا في اللي بيأكل عيش ويجيب تقدم».
- تامر أمين
هذه الكلمات التي انتُقد بسببها الإعلامي تامر أمين عندما طالب بإلغاء مواد التاريخ والجغرافيا والفلسفة من الثانوية العامة، وأن تُدَرَس في مراحل سابقة فقط، وبدلاً منها تُدرس موضوعات أخرى.
والحقيقة أن هذه الفكرة وإن لم يقلها آخرون، فهي شائعة بين عديد من الأشخاص الذين يرون أن التعليم وسيلة فقط للدخول إلى سوق العمل و«أكل العيش»، ولا هدف آخر له. فهل هذه الفكرة حقيقية فعلاً، وإذا كانت كذلك ونحن نتعلم لأجل الوظيفة، فهل يعني هذا أننا لا نحتاج إلى دراسة علوم أخرى بعيداً عن تلك المرتبطة بمجال عملنا؟
دعنا نتفق بداية أننا لا نتحدث هنا بالضرورة عن التعلم الرسمي في المسارات التي يسلكها الإنسان مجبراً وفقاً لمنظومة التعلم، ولكن حديثنا يشمل جميع أشكال التعلم الرسمية وغير الرسمية، إذ في النهاية لا بد من وجود دوافع معينة تتحكم في مسألة التعلم، ويمكننا تلخيصها في دافعين أساسيين:
الأول هو أننا نتعلم لأجل حياة أفضل اجتماعياً ومهنياً، وهنا يكون التعليم أداة مهمة للاشتباك مع الواقع، وكلما ارتقى الإنسان درجة في سلم التعليم، ساعده ذلك على تحقيق ذاته، ومكنه من الحصول على مصدر أو أكثر لتحقيق الدخل. وفي هذا السياق يمكننا القول إن التعلم لأجل الوظيفة هو دافع حقيقي وموجود فعلاً.
الثاني وهو أننا نتعلم لأجل أن يكون كلٌ منا إنساناً أفضل، وهذا معنى يدعونا إليه الإسلام ويحثنا عليه الدين دائماً، فالدعوة إلى الدين وإحداث التغيير لا تأتي بغير المعرفة، والإنسان يتعرف إلى الله حقاً بالتعلم والبحث والمعرفة. وهذه المساحة لن أستفيض بها، لكن أدعوك لمشاهدة هذا الفيديو للدكتورة هبة رؤوف عزت، تتحدث فيه عن: لماذا نتعلم؟
حسناً نحن قد اتفقنا أن دافعاً قوياً للتعلم هو الوظيفة والوصول إلى سوق العمل، بل وقد يكون حالياً هو دافع الأغلبية سواء اتفقنا أو اختلفنا مع ذلك. ومن هنا يأتي إجماع وتساؤل حول كيفية التعلم الحالية، ويطرح الناس سؤالاً يحاوطه المنطق: ما دمت سأتعلم لأجل الوظيفة، فلماذا عليّ دراسة مجالات مختلفة؟
يحاول كثيرون تبرير عدم اهتمامهم بمختلف المجالات الأخرى انطلاقاً من هذا السؤال، ويرون أنّ الأجدر بهم التركيز فقط على مجال العمل، أو المجالات التي تؤثر في ذلك بصورة مباشرة لاعتبارات مثل تحقيق الدرجات المطلوبة للنجاح وغيره، وتجاهل تعلم أي علوم أخرى بعيداً عن هذه النقاط.
ولكن المشكلة الأساسية في هذا السؤال هي أنه يتضمن افتراضين، أولهما أننا نعرف مسبقاً ما نريد التخصص به، وثانيهما أن ما نحتاج إليه للنجاح في العمل هو فقط المعلومات التقنية ذات الصلة المباشرة بعملنا.
وبالطبع كلاهما به مشكلة كبيرة لا يمكننا تجاهلها، أما الافتراض الأول فهو خطأ، لأنه إذا كان قرار الإنسان هو التخصص، فهو يحتاج إلى فترة لاكتشاف ما يهتم به حقاً، وهذا الأمر يختلف من شخص لآخر، أي إننا في النهاية لا نعمل في الوظيفة ذاتها، ونطرق مسارات مختلفة، وهذا يعني أننا نحتاج لاكتشاف عدة طرق لنعرف أين نذهب بالتحديد.
أما الافتراض الثاني، فهو يبدو صحيح ظاهرياً، لكنه في أرض الواقع ليس كافياً على الإطلاق. عندما ننظر إلى مقومات النجاح في العمل، وهي العوامل التي تسهم في نجاح كل فرد أو رائد أعمال في عمله، أو تختار الشركات موظفيها وفقاً لها، فإننا نجد هذه المقومات تنقسم إلى جزأين: المهارات الشخصية أو البشرية - المهارات التقنية.
والمهارات البشرية هنا تتضمن عناصر مختلفة، مثل العقلية والسلوك والتفكير بأنواعه وأساليب التواصل مع الآخرين، وغيرها. وبحسب جامعة هارفارد ومركز ستانفورد للأبحاث ومؤسسة كارنيجي للنهوض بالتدريس، فإن 85% من النجاح الوظيفي يأتي من المهارات البشرية في مقابل 15% فقط للمهارات التقنية.
وفي الواقع لا تنشأ هذه المهارات البشرية بمعزل عمّا نتعلمه، بل إن العلوم الأخرى التي ندرسها هي التي تسهم في تعزيز هذه المهارات، وتكسبنا قدرات أعمق سواء على المستوى الشخصي لحياتنا بصفة عامة أو على المستوى العملي.
مثلاً، تساعد دراسة التاريخ على تعلم وتطوير مهارة التفكير النقدي، إذ نتعلم من خلاله كيف نتعامل مع السرديات التاريخية، ونبحث فيها للاستقصاء والتحقق بدلاً من قبولها دائماً بوصفها حقائق مطلقة، ونعرف كيف نحلل المصادر المختلفة ونحدد المغالطات المنطقية والانحيازات المعرفية في المصادر.
تساعد دراسة علوم مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات على تحسين مهارات التفكير المنهجي وحل المشكلات. كما أن دراسة الإحصاء تساعد على تحسين عملية اتخاذ القرارات، وتعرفنا كيفية تنفيذ هذه العملية استناداً إلى الأرقام. وهكذا يمكننا الاستمرار في سرد كيف يسهم كل علم في تحسين مهاراتنا ونظرتنا إلى الحياة.
إضافة لأن محصلة هذه العلوم معاً هو ما يضيف إلينا حصيلة من المعرفة المتكاملة التي تبني عقولنا، وهذه المعرفة تلعب دورين مهمين: أولاً تكون مرجعاً لنا عندما نرغب في اقتراح فكرة ما، حتى وإن لم يكن ذلك بصورة مباشرة، لكن في النهاية نحن محصلة ما نعرفه؛ وثانياً تفتح مداركنا نحو فهم أفضل للعالم يجعلنا أكثر هدوءاً في التعامل مع المواقف والأشخاص.
عندما تنظر إلى ما تفعله بصورة أعمق وأشمل، تلقائياً ستتغير نظرتك للأشياء التي تقوم بها في حياتك، وستدرك أن ما تتعلمه كله يصنع الفارق في حياتك، أياً تكن وظيفتك.
في واحدة من اللقاءات مع لاعب التنس أندريه أغاسي أحد أساطير اللعبة، يتحدث أغاسي عن أن التنس يتعلق بحل المشكلات بصورة أساسية، ويضرب مثالاً على ذلك من مواجهته مع بوريس بيكر وخسارته منه ثلاث مرات. حرص أغاسي على مشاهدة شرائط لبيكر يلعب، وفطن لأنه يحرك لسانه بطريقة معينة عند الإرسال، وهذه الحركة تحدد المكان الذي سيرسل الكرة به.
استفادة أغاسي من هذه المعلومة، لكن يذكر أن التحدي الأكبر بالنسبة له كان متعلقاً بكيفية توظيف هذه المعلومة لصالحه دون أن يسمح لبيكر بإدراك هذا الأمر، وبالفعل تمكن أغاسي من الوصول إلى حل وانتصر في تسعة لقاءات من أصل 11 لقاءً جمع بين الاثنين بعدها.
بعد اعتزال بيكر وفي أثناء لقاء بينهما أخبره أغاسي بما فعله، وضحك بيكر كثيراً لأنه كان بعد كل لقاء يعود إلى المنزل ويقول لزوجته إنه يشعر بأن أغاسي يقرأ أفكاره، والآن اكتشف أنه كان يقرأ لسانه فقط.
توضح هذه الفكرة كيف أن المعرفة التي يكتسبها الشخص، إلى جانب معرفته التقنية تصنع فارقاً في عقليته وتساعده على النجاح، فأغاسي هو نجم في التنس، لكن تميزه لم يحدث فقط بسبب مهارته التقنية في اللعبة، ولكن للمهارات الشخصية الأخرى التي يملكها.
أنا هنا غير موجود للدفاع عن الفلسفة والجغرافيا والتاريخ تحديداً، ولست بصدد إقرار أن هناك منهجاً محدداً يجب على الجميع دراسته. فقط ما أرغب في التأكيد عليه هو أنه حتى إذا كنت تتعلم لأجل الوظيفة فقط، فهذا لا يعني عدم الاهتمام بالعلوم الأخرى من منطلق أنها لا تفيدك.
يوجد مبدأ يقول: «اعرف كل شيء عن شيء، واعرف شيئاً عن كل شيء». اعرف كل شيء عن مجالك وتوسع في دراسته بالتفصيل، واعرف شيئاً عن جميع العلوم الأخرى، ليس شرطاً أن تحبها جميعاً أو تتوسع في دراستها، لكن على الأقل امنح نفسك فرصة التعرف عليها، واسمح لها بالتأثير في فكرك، وانظر إليها بوصفها عاملاً مساعداً في رحلتك.
ختاماً، تذكر هذا القول: «لا يبحث الإنسان عمّا يجهل أنه يجهله». لهذا ستجد من يؤكد لك أنه لا يحتاج إلى العلوم الأخرى في شيء، فهي لا تصنع فارقاً كبيراً في رحلته، والحقيقة أنه ببساطة لا يعرف أثرها الفعلي، ولهذا قد يعتقد أنها فعلاً «مش بتأكل عيش ولا بتجيب تقدم».